السبت، 13 يوليو 2013

ستُمطر هذا النهار

بداية ..
لي صديقتان أبهى من حُلل النور، وأشد على الباطل من طلقات الرصاص .. هما من كتبتا هذه القصة حقيقةً، وما فعلتُ سوى أن تقمّصتُها كما أتقمص بقية أيام حياتي .. " مروة فاروق .. هبة عبد المنعم " شكراً من القلب ..








" ستُمطرُ هذا النهار "


لم أنتبه لصوته حين كان يطالبني المكوث في المنزل وعدم الخروج هذا اليوم ظننتُ أني أتخيل ولهذا لم أعره أي انتباه، رحت أقتحم زحمة المتظاهرين في طريقي إلى المسجد، اعترضت طريقي سيّدة تصرخ بهتاف ما لم أتبينه ولم أُجهد نفسي بمحاولة تخمينه، حاولت تجاوزها بسرعة فارتطم كوعي بجبهة شيخ قصير القامة، نظرة سريعة إلى ملامحه الهرمة والتجاعيد التي كادت تخفي تعابير وجهه جعلتني أقدّر عمره، كان يقارب السبعين سنة ورغم سطوة السن وتعب هذه الظهيرة الحارقة إلا أن الحماس كان يدفعه للهتاف بقوة أقرب إلى الوثبات، قبل أن أجد الوقت للاعتذار وجدته يعاود الهتاف المتوثّب، منحني هذا الأمر راحة أغنتني عن الارتباك وتكرير عبارات الأسف، تجاهلت الأمر ورحت أحاول تجاوز مجموعة من الشباب سدّوا الطريق أمامي بظهورهم العريضة، حاولت جذب انتباههم بشتى الطرق، لا فائدة.. دفعت بكتفي بقوة على ظهر أقربهم إلي فإذا به يتملّص بطريقة ما لأجد نفسي مطروحاً على الأرض كسجادة قديمة والكل يتخطاني أو يتعثر بي، سارعت إلى النهوض حانقاً والتزمتُ الصمت، لا شأن لي في كل ما يحدث وكل ما أريده هو الوصول قبل فوات الأوان، شدّني تيار المزدحمين إلى حيث لا أدري وأنا أتلفّت بحيرة، أين طريق المسجد! صلاة الجماعة واجبة لكن لو عرفت الوضع في الشارع لصليتها في المنزل.

الهاتف يهتزّ في جيبي بإصرار، أستطيع إخراجه الآن بعد أن وصلت لنقطة خفّ فيها الزحام قليلاً
-      ألو ..
-      لماذا خرجت يا ولد ؟ ألم آمرك بعدم الخروج
-      أبي .. لم أسمعك، كنت أظنك تحدث أمي
-      ارجع حالاً بسرعة
-      لا أستطيع .. زحمة المتظاهرين تمنعني من الحركة، كأنهم تحوّلوا إلى عجين متماسك
-      قلت لك ارجع .. أريد أن أراك في المنزل حالاً
-      حاضر يا أبي

لا أدري لماذا يصرّ على القلق، كأني ما زلت في الاعدادية ! أكاد أتخرج من الثانوية و"أدخل معترك الحياة" كما يقولون، أعدت الهاتف إلى جيبي بصعوبة والتفتُّ إلى الوراء أهم بالعودة، لن أُخاطر بإغضابه اليوم فغضبه الهادر في العادة تضاعف هذه الأيام بسبب الأحداث الموتّرة للأعصاب والتي اجتاحت البلاد بأكملها، حاولت أن أعود بخطوات متعثرة لكن الطوفان البشري عاد لدفعي إلى الجهة الأخرى بقوة جعلت قدميّ ترتفعان عن الأرض وتيار المتظاهرين يقودني دون أن أملك الطاقة للمقاومة، استسلمتُ وقد عرفت أنه قُدّر لي أن أسير في هذا الاتجاه " مشيناها خطىً كُتِبتْ علينا " لا أذكر من قائلها ولكنها ترددت في خاطري وأنا أتأمل البنايات بجوارنا لأعرف إلى أين يسير بي هذا الطوفان ..  

شيخٌ آخر هرم يستند إلى كتف ابنه - أم هو أخوه ! - لا يصغره بكثير، كلاهما غطى الشيب رأسه حتى لم يعد فيه غير البياض، ماذا يفعلان هنا؟ هؤلاء الشيوخ المتحمسون لقضية يخاف الشباب أنفسهم خوض غمارها، يدرون بالتأكيد أن هلاكهم هنا – واليوم - أقرب إليهم من تحقيق مطالبهم، من أين لهم هذا الحماس كله !

فجأة توقف الجميع عن السير وارتجّت الأرض من تحت أرجلنا، ودويّ مزلزل فوقنا يكاد يمزّق أذنيّ، كأنما السماء تقع
-      ما كان هذا ؟  

أصرخ بالسؤال ولا أكاد أسمع صوتي، صوتُ الانفجار يتكرر، يبدأ الجمع في التفرق والتخبّط .. الكل يصرخ كأنما النيران تأكل أجسادهم، بقع من الدماء هنا وهناك .. لا أدري أين أذهب ! ولا أعرف ما يحدث حقيقة !! ليتني استمعتُ لحديث أبي، ليتني ما خرجتُ اليوم ..
الصرخات المتوالية من الجميع حولي تحيط بي كغمامة سوداء تهبط على قلبي بالرعب والقنوط، انتابني الارتباك وتوقف عقلي عن العمل لبرهة، هتاف من بعيد أسمعه كأنه الصدى
-      الجيش يطلق النار علينا .. الناس تموت !

لا أدري كيف انتشلتُ نفسي من حالة الشلل، لا أدري كيف ركضتُ مع الراكضين، لا أدري إلى أين توجهت، كل ما أعرفه أني خفتُ كما لم أخف في حياتي، خفتُ كما لم أتخيل أن يخاف إنسان حيّ، شعرتُ بقلبي ينقبض كأن يداً خفية تعتصر منه الحياة، بذعر مجنون رفعتُ يديّ إلى الأعلى وصرخت بأعلى صوت
-      لستُ معهم .. لستُ معهم

 لا أحد يسمع، صوت الطلقات أصبح واضحاً بعد أن توقفت الانفجارات، طلقات مدويّة سريعة تخترق السمع وتترك في الأذنين رنيناً مؤذيا غريب الوقع، لم أعد أسمع الصرخات ! الرنين المتموّج يتردد في أذني بكثافة تمنعني عن سماع أي شيء، شاب ملتحٍ يسقط جواري منتفضاً مضرجاً في دمائه وحلقُه يُصدر صوت غريق، صوت من يبتلع الدماء بدل استنشاق الهواء، مرة أخرى يعاودني الشلل .. لا إله إلا الله ! ماذا أفعل؟ هل هو ميت؟ هل أساعده! كيف ؟!

هذا النحيب المتقطع المهزوم الذي أسمعه صادرٌ مني ! لا أدري متى ابتلّ وجهي بالدموع، خبطة من أحد الراكضين دفعتني خطوتين إلى الأمام، المسجد أخيراً .. أنا أمام المسجد ! لا بد أنه القدر، لا أريد أن أموت هنا، ليست هذه قضيتي لأموت من أجلها، صلاة الجماعة هي كل ما أردته .. ثلاثة شبّان ضخام يحملون جسد شيخ مصاب سدّوا أمامي الطريق فتذكرتُ أن أمشي، بدأت الجري بذعر متزايد، عاد إليّ الشعور بكينونتي، بطبيعتي البشرية، فارقني شيء من القنوط وعاد لي خوفي على حياتي ثانية وأعاد لي باب المسجد أمامي بعض الأمل، جريتُ نحوه بأمل، اقتربت .. أخذت شهيقاً عميقاً وأغمضتُ عيني بقوة بعد أن رأيتُ المنظر، طفل ضئيل الحجم جداً غارق في بحر من الدماء، لا أريد أن أرى شيئاً من هذا.. لا أقدر على التحمّل .. ليست هذه بلادي التي أعرفها ! لا يمكن

ما زلتُ أقف خارج المسجد، أرمق المنظر داخله وقد تهدّلت كتفاي كشيخ يودّع الحياة، ثقل العالم كلّه يجثم على قلبي، يخترقني شعور حادٌّ بالمرارة، بالفقد، باليأس، بالتغرّب، بالقنوط .. ليست هذه بلادي التي أعرفها، لا يمكن أن تكون

سهم من الألم يحرق جنبي الأيمن، أسقط أرضاً أتلوّى والطنين في أذني يمنعني عن سماع صرخاتي، أصرخ .. أنتحب .. أشهق بقوة .. وأتلوّى ..
أُحمَلُ إلى الداخل والدم يفيض من جنبي كأمواج بحر هادر، أتساءل في ألم عن شعور معذبنا، هل هو سعيد بما يفعل ! منتشي ! .. يا الله كم تمعن الحياة في الغرابة، فرغتُ الآن من الذعر، أنا الآن مذهول تماماً وجسدي كله مخدّر، تحول الألم إلى نبض قوي منسجم من أعلى رأسي حتى أصابع قدميّ، لا أدري ما سيحدث لي، فقط أتأمل من خلال الدمع نهر الدماء الذي يفيض بقوة من جرحي العميق، وأتخيل ما ستتناقله وكالات الأنباء لاحقاً ..  ويرنّ في أعماق ذاكرتي بيت الشعر القديم، التحذير الذي حفظه الفلسطينيون قبلنا 

" ستُمطر هذا النهار رصاصاً .. ستُمطرُ هذا النهار " 

هناك تعليقان (2):

  1. شعرت أنني أحضر نشرة أخبار، تلك الأخبار التي منعتها عني أحضرها هنا بإرادتي، و أعيشها من كل الجوانب؛ كمصور، كثائر، كمشاهد، كمذيع، كمواطن ، كمنتمي لحزب و كمستقل برأيي .
    لا أظنني و أنا متضرجة بدماء سأفكر بهل يتمتع أحدهم بألمي، كلما يفكر به المرء حينها كيف يظل متشبت بالحياه، و ربما كيف سيتصرف أهله حين يصلهم الخبر ..
    ذكر الفلسطينين في الأخير، يذكرني بالقضية التي لا تنتهي
    لن يأتي يوم يتوقف الناس عن الشجب و التظاهر و التمرد ..

    دمتِ بود
    و تحية لكِ

    ردحذف